عندما نظر النقاد إلى الشعر بنظرة تبتغي تحديد ماهيته انساق أغلبهم إلى تحديدها في موسيقاه، فقالوا: «الشعر كلام موزون مقفى». ومعلوم أن الخليل بن أحمد بعد كشفه للنظام الموسيقي المحايث للشعر العربي وضع تعريفا إجرائيا ومعياريا، صار مقياسا لقراءة الشعر السابق واللاحق أيضا؛ فقال: «الشعر ما وافق أوزان العرب»، فكان بذلك يؤسس ضمنيا لنفي الخاصية الشعرية عن كل نظام من القول يخرق هذه الأوزان الموسيقية ولا يوافقها.
فهل بالفعل يصح اختزال الشعر في إيقاعيته؟
لاشك أن ماهية الخطاب الشعري أوسع من أن تختزل في إيقاعه الموسيقي. رغم وثاقة الصلة بين الشعر والموسيقى. ولعل أول من تنبه إلى بيان الماهية الشعرية، خارج ذلك الاختزال الشائع الذي يحصرها في النغم الإيقاعي، هو الجاحظ عندما أشار إلى الصورة كمكون رئيس في تعريف الشعر؛ حيث قال: «إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير»..
تجاه هذا التعريف نلقى أحد كبار أساتذة الأدب العربي، أقصد شوقي ضيف، ينتقد الجاحظ ؛ لأنه لم يلتزم بتعريفه هذا، حيث يقول: «ولكن للأسف لم يعنَ هو نفسه (يقصد الجاحظ) بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان والتبيين».
ونعتقد أن الصواب غير ذلك. فما جمعه الجاحظ في كتاب «البيان» لا يخلو من فعالية التصوير. ولا يسمح المقام بالإيغال في إيراد الشواهد الشعرية من متن الجاحظ، إنما نكتفي بهذا الإلماح لنفرغ لموضوع بحثنا: هل يمكن تحديد ماهية الشعر؟
إن كثيرا من المفكرين والنقاد لم يجدوا مسلكا إلى ضبط ماهية القول الشعري، لذا تجدهم يصرحون باستحالة التحديد الماهوي للشعر. فـ«تيفر» يرى أن «كلمة الشعر ككلمة الجمال من الكلمات المبهمة».
كما أن «لمبورن» ينطق صراحة باستحالة التحديد مستدلا على هذه الاستحالة بغموض موضوعين رئيسين يكونان أصل المادة الشعرية هما الحياة والحب؛ حيث يقول: «لا يمكن تعريف الشعر إلا إذا عرفنا الحياة والحب اللذين يترجم عنهما».
وقبل هذه التأملات القاضية باستحالة التحديد الماهوي للشعر، نجد التفكير الفلسفي منذ أرسطو، قد اهتم ببحث القول الشعري. ففي كتابه «فن الشعر»، يربط أرسطو بين الشعر والصورة والخيال. فالقول الشعري عند أرسطو إبداع للصور من المخيلة، يستوي في نظام لغوي إيقاعي. لكن إذا كان أرسطو حدد مكونات القول الشعري في الصورة والخيال واللغة والإيقاع، فإنه سرعان ما سينفي خلال بحثه اللغة والإيقاع؛ لأنهما حسب تقديره عنصران لا يملكهما الشاعر؛ ومن ثم لا يتبقى إلا الصورة المتخيلة. حيث أن أصالة الشعر والشاعر ينبغي أن تلتمس في الصورة التي يبتدعها.
إذا ما التزمنا بهذه الرؤية النقدية الأرسطية، فإن تحليل القول الشعري سيكون متجها ليس إلى الأسلوب اللغوي ولا إلى الإيقاعية التي يبتدعها الشاعر بتوليفه بين صوتية الألفاظ، إنما فقط إلى الصورة. وذاك ما حصل بالفعل من بعد أرسطو، حيث هيمن تصوره الفلسفي هذا على النقد، فاتجه إلى تحليل الصور وإغفال الإيقاع والأسلوب، «حتى ظهر الناقد اليوناني ديونيسيوس لونجينوس». ومما ساعد هذا الناقد على خرق السلطة الأرسطية هو أنه كان متخصصا في علم البلاغة. وانطلاقا من زاوية نظره التخصصية هذه كان مدفوعا إلى إعادة قراءة العرف النقدي الأرسطي، لخرق محدودية رؤيته إلى الشعر. ففي تحليل ديونيسيوس للأوديسا، نظر، ليس فقط إلى الصورة الشعرية الكامنة فيها، بل إلى بلاغة خطابها، فانتهى إلى القول بأن «أساس الشعر الأسلوب».
وبعد زوال السلطة الأرسطية ذهب «كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث كل منهم يخطئ أرسطو ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر».
إذن نحن هاهنا أمام ثلاثة مكونات تؤسس الخطاب الشعري اختلف الفلاسفة والنقاد في شأنها هي: الصورة والأسلوب والإيقاع. أيها محدد لماهية الشعر؟
لكن لم هذا السعي إلى اختزال الماهية؟ لم يتجه التفكير الفلسفي إلى تضييق الواسع واختزال الكثرة؟ ألا يمكن أن تكون الماهية متعددة متكثرة؟
لعل من بين الحوافز التي دفعت الوعي الفلسفي إلى اختزال الماهية في محدد واحد هو فهمها للكينونة الماهوية ذاتها. بمعنى أن مكمن نزعتها الاختزالية لماهيات الأشياء هو اختزالها لماهية الماهية.
فالتعريف الماهوي عندها هو ذاك الذي يمسك بـ «الفصل» المائز بين الأنواع. وبذلك استقر داخل التفكير الفلسفي عرف يضبط عملية التعريف، فيوجه التفكير نحو الإمساك بعنصر مائز يسميه فصلا ماهويا. وبما أن الكينونة حسب التصور الفلسفي متراتبة، وبما أن العناصر متفرقة في مراتب الكينونة، فإن كل مرتبة تتميز عن سابقتها بمائز هو ماهيتها. لذا فتحليلها للخطاب الشعري كان مدفوعا بهذا التوجه نحو تحديد فصل ماهوي يميزه عن غيره من أشكال الخطاب.